الإنسان بلا خيال نظَّارة بلا عينين:

الخيال بساط الريح الذي يحمل الشعراء (1 – 2) (*)

عبدالله الجعيثن

كان الشعراء القدامى يُسَمُّون الخيال الشاعري الذي يعتادهم: الشيطان!

حتى قال شاعرهم مفتخراً:

إني وكُلُّ شاعر من البشرْ

شيطانُهُ أنثى وشيطاني ذكر!

بل إن هذا المعنى قديم قبل العرب في جاهليتهم، فصاحب الإلياذة الشاعر الاغريقي الذي توفي قبل الميلاد يقول (الشعر شراب الشيطان!).. وسبب هذا في اعتقادي حيرة الشعراء مع الشعر، فإنهم قد يطلبونه فلا يجدونه، ويهبط عليهم بدون مقدمات في لحظة سكون، والفرزدق يقول: «إنه ليأتي عليَّ وقتٌ قلعُ ضرس فيه أهون عليَّ من قول بيت من الشعر» على كثرة ما قال من روائع القصائد..

إنه الإلهام الذي يتدفق على الشاعر من مخزون خياله ومشاعره أو وحي الشعر كما يقال، ذلك ما سماه العرب (شياطين الشعر) وسماه الأوروبيون (عرائس الشعر)، وقال عنه أفلاطون (يدين أحسن الشعراء جميعاً بأشعارهم الجميلة لا للفن بل للحماسة ولنوع من الغيبوبة فهم يشبهون الراقصين الذين لا يبدعون إلا إذا خرجوا من شعورهم، فالشاعر كائن خفيف له أجنحة!».

قلت: له أجنحة؟ هذا صحيح، إنها أجنحة الخيال، أما أن الشعراء يدينون بإبداعهم لما يشبه الغيبوبة فهذا ليس بصحيح، فالشعر ليس حفلة زار، ولكنه موهبة وشعور مرهف وموقف يهز هذا الشعور ليطير بجناح الخيال، دون غيبوبة، فللعقل نفسه دور، ولكنه يسير، عبَّر عنه «ل. ب. فارج» فقال: «إن العقل في مجال الشعر يقوم بشراء الحاجيات وحمل البضائع ويجهز قاعة الاستحمام.. فهو خادم صغير يقف لخدمة سيدة جميلة».

قلت: وهذه السيدة الجميلة هي المشاعر، وإذا كان العقل خادماً صغيراً في بلاطها فإن الخيال هو بساط الريح الذي يحلِّق بها..

ولا نقول: لا يوجد شاعر بلا خيال، بل نقول لا يوجد إنسان بلا خيال حلَّق أو أسفّ، فالخيال عينه داخلية في كل إنسان..

٭٭٭

والخيال المحلق كثير في الشعر العربي والشعبي، ولكننا نذكر شواهد مما حضر.. تقول فدوى طوقان:

وتمضي وأمضي مع العابرين

وما بيننا غير نجوى النظرْ

وطيفُ ابتسام على شفتيك

ووهج هيام بعمقي استعر

وقد هبط الليل حُلو الغموض

خلوب الرؤى عبقري الصور

وماجت مع الريح خضر الكروم

مشعشعة بضياء القمر

وفاض الوجود شعوراً وشعراً

وذاب من الوجد حتى الحجر!

فهذا خيال عمَّ الوجود فهو ليس بساط الريح بل سفينة نوح..

ويقول خالد الفيصل بعنوان: «أذكريني»:

كل ما عانقْ نظر عينيك قمرْ

أو لثم خدِّك شعاع من غروبْ

أو نسيم هفهف بشعرك سَحَرْ

أو تغنَّى بالهوى صوت طروبْ

أو تبلّلْ كفّك بقطر المطر

أو تبسّم بالسما نجم جنوب

أو ضحك ورد على عَوْد خضر

أو نقل لك نفحة خزامى هَبُوبْ

أو تهادى موج في شط البحر

ينشد الراحة بعد يوم تعُوبْ

أو خيال من قديم أمْسك خصرْ

يستفز القلب بالصوت العتوبْ

أو تجاسر فكر في ليلة حذر

يسترد الحلم من درب الهروب

أذكريني.. واستعيديني شعر

صادق المعنى.. ولو وقْتَه كذوبْ

إن الخيال هنا يحمل مطر المشاعر إلى الحبيب.. وهو كالمطر نفسه يصيبه أينما ذهب.. ولو توارى فإنه يسمع وقع المطر ويشم رائحة المطر.. المطر الهتان لا يخفى.. وخيال الشاعر يريد أن يجعل ذكراه في وجدان الحبيب محاطة بكل ما يرى وبكل ما يسري فيه من خاطر

٭٭٭

وهناك شعر فيه خيال يعلوه خيال، كسحاب فوقه سحاب، مثل قول أنور سلمان على لسان محبوبته:

لي هذا الشاعر أفديه

وأموت بدفء قوافيه

بسواد عيوني!.. ما خفقت

شفتاي لغير أغانيه

أهواه أعيش بحجرته

طيفاً، بالحب أناجيه

أُدنيه إليَّ، أعاتبه

وبرمش العين أداريه

وأحبُّ جميع قصائده

وأحب جميع معانيه

إن جاء لوعد أرقبه

بزهو الوردة بالتيه

وأحارُ بكيف أقابله

وأحارُ بكيف ألاقيه

أبكي أبكي إن غادرني

وبشوق الشوق أناديه

بجموع العطر أواكبه

ومساء النجمة أهديه

إن غاب أغيب عن الدنيا

ويغيب الكون وما فيه!

فالشاعر «تخيل» مشاعر حبيبته نحوه أولاً، ثم صاغ هذه المشاعر بخيال محلق، فالمشاعر كالسحاب، والخيال هو ريح الصِّبا تسوقها، وهو الرعد يسوطها، وهو البرق يوقدها، حتى تمطرها مشاعرها، والعرب تقول: «إذا كان السحاب من جهة القبلة، ثم ألقحته الجنوب، وإذ رأته الشمال كان مطره أجود المطر» والصَّبا هي الرياح الطيبة تأتي من الشرق تجاه القبلة كأنما تسوق السحاب بمحبة، والشاعر إذا كان أصيل الموهبة وراكم حُبُّه سحابا من المشاعر فإن الخيال هو الذي يجعلها تُمطر، ويجعلنا نسعد بذلك المطر.. نحتاج الشعر كما تحتاج الأرض المطر.

٭٭٭

ومن المؤلم أن العصر الحديث يقص أجنحة الخيال ويمنع المطر من النزول، فالتلفزيون يصدمك بالواقع ولا يجعل لخيالك أي مجال عكس الشعر والقصة، حين كنا صغاراً كنا نحرق فحمة الليل بقراءة قصة يتقد معها جمرُ الخيال فينا: حين نقرأ أوصاف امرأة جميلة يسافر خيالنا في تصورها إلى أبعد مدى، ويا للأسف كم قصة قرأتها وتخيلت بطلتها الجميلة حتى عشقتها ثم صُعقت حين رأيتها ممثلة في فيلم سينمائي وأمامي تلك المرأة أراها.. لا.. إنها لست هي!.. إن الخيال شيء آخر.. ممطر دائم المطر.. مسافر دائب السفر.. أما الواقع فجامد كالصخر الأصم.. الخيال ضروري لتذوق الآداب والفنون، وللنجاح في الحياة أيضاً، فالذين لا يحلمون بالقصور في الهواء لا يملكونها على الأرض.

٭٭٭

و«نورة الهوشان» شاعرة شعبية مبدعة، رغم أنني لم أجد لها غير قصيدة واحدة، ولكن حين تذوق من الطبق الكبير ملعقة تعرف أطيب هو أم لا؟..

وقصيدتها تدل على شاعرية أصيلة.. قالتها في زوجها الذي تحبه بجنون ثم طلقها فظلت تحبه وتحمل له الوفاء والإخلاص، وخطبت مراراً فرفضت لأن قلبها معلّق به، فظلت تعيش على ذكراه وتروي شجرة حبها بدموعها لتظل خضراء.. تقول:

يا عين هلّي صافي الدمع هليِّه

وإلى انتهى صافيه هاتي سريبه

يا عين شوفي زرع خلك وراعيهْ

هذي معاويله وهذي قليبهْ

يمرّني بالدرب ما أقدر أحاكيه

مصيبة يا ناس والله مصيبهْ!

اللي يبينا عيّت النفس تبغيه

واللي نبي عيا البَخَتْ لا يجيه

والبيت الأخير ذهب مثلاً.. والشعر كله من صميم القلب، فهي تمر بزرع زوجها السابق الذي عاشت معه أحلى أيام حياتها، تمر بالزرع القريب من نفس القرية الصغيرة، وترى (معاويله) أي عدّته التي يعمل بها.. لا شك أنها كانت تعمل معه في هذا الزرع.. وترى القليب (البئر) التي كانا يشربان منها معاً ويسقيان الزرع.. هذه الأشياء الملموسة تشعل فيها ذكريات الأيام الخوالي حين كانت هنا.. معه.. (هذي معاويله وهذي قليبه) تقوله بألفة عن جميل معرفة.. وتستحضر أيامها بخيالها ونستحضرها معها.. ليس هذا فقط.. الحبيب يمر بها ما تقدر تحاكيه.. كان زوجها.. كان.. الآن هو رجل غريب:

يمر بالدرب ما أقدر أحاكيه

مصيبة يا ناس والله مصيبه!

أنا أشهد.. هذا أمر في الهوى: قرب

الحبيب وما إليه وصول..

الإنسان بلا خيال نظَّارة بلا عينين:

الخيال بساط الريح الذي يحمل الشعراء (2 – 2)

كأنما الخيال ضوءٌ ذهني ينبعث من رؤوس الشعراء وقلوبهم فيحملهم إلى بعيد، ويحلق بهم في الأعالي، ويحقق لهم الوصول إلى أبعد المشاعر كما يُحَلِّق (بساط الريح) الخرافي بمحموليه إلى حيث يريدون..

الفارق أن الخيال ليس خرافياً.. بل هو موهبة راقية أمتاز بها الشعراء والفنانون.. ويوجد عند كُلّ إنسان، ولكنه لدى الشعراء والفنانين أقوى وأمضى وأسرع نفاذاً وأدق إصابة.. لكأنما الشاعر يرى بخياله أرق المشاعر فيصطادها بصوره الملونة التي تنبعث من خياله كضوء ذهني سرى من الكهرباء التي تضطرم في عواطفه..

الخيال ليس خرافة كبساط الريح ولكنه حقيقة نحسها في صور كبار الشعراء، بل إن الخيال يجعل الواقع البعيد واقعاً قريباً، والشعور المبهم الخفي مُجَسَّداً في الوجود، واضحاً كل الوضوح، يجعل المُتَلَقِّي يتأثر به أكثر من تأثره بالواقع نفسه، فالسيدة المترفة التي تقرأ قصتها الخيالية الحزينة وهي على سريرها الوثير محاطة بوسائل الترف والسعادة، تسافر مع خيال القاص، وتتأثر، وتمسح الدموع من عينيها وهي تقرأ المآسي التي صورها قاصها المفضل بخياله، وتتعاطف بشدة مع بطلة قصتها الخيالية ذات الظروف الأليمة، وتود أن تُقَدِّم لها الكثير لو تستطيع، بينما تقبع على بُعْد أمتار قليلة منها، خادمتها المسكينة التي ظروفها بائسة جداً، ومأساتها حقيقية، ولكنها لا تتعاطف معها، ولا تقدم لها غير مرتبها القليل، وتقسو عليها وتنهرها، هكذا يفعل الخيال.. يؤثر أكثر من الواقع..

٭ ٭ ٭

والشعر لدى كل الأمم، وبكل اللغات واللهجات، من فصيح وشعبي، زاده الخيال، وماؤه، وهواؤه، الخيال هو ريح الصَّبا التي تسوق سحاب الشاعر ليُمْطر، وهو الرعود التي تجلد مُثْقَلَ سحابة لينهمر، وهو البروق التي تلمع كالسيوف لتجعل سحاب المشاعر يسيل بتواصل.. فيسعد الشاعر والسامع، كما تسعد الأرض بانهمار الغيث، وكما تُزْهرُ الأرض وتثمر، يزهر خيال الشاعر في قلوبنا زهوراً متفتحة للحب.. مُفْعة بالحياة.. ومع قطرات المشاعر ونداها تتفتح في أعماقنا ورود الإنسانية عن أكمامها، مُخَضلَّة بالندى، مضمخة بالعبير، متعاطفة مع القريب والصديق، بل ومع عابر السبيل، مشتاقة إلى الندى والابتهاج..

الإنسان بلا خيال.. لا شيء.. مجرد لحم.. الإنسان بلا خيال منطفئ.. نظارة بلا عينين..

يقول قيس بن الملوح (مجنون ليلى):

رُعَاةَ الليل ما فَعَلَ الصباحُ

وما فعلتْ أوائلُهُ الملاَحُ

كأنَّ القلبَ ليلةَ قيلَ يُغْدَى

بليلى العامرية أو يُرَاحُ

قَطَاةٌ غَرَّها شَرَكٌ فباتتْ

تُجَاذبُهُ وقد عَلقَ الصباحُ

لها فَرْخَان قد تُركا بوكرْ

فَعُشُّهما تُصَفِّقُهُ الرياحُ

لولا الخيال لكان التعبير هو (حين عرفُت أن ليلى سوف تسافر صار قلبي يخفق ويخفق) ولو كررنا كلمة الخفقان ألف مرة ما كان هناك فنٌ ولا تصوير.. ولا تأثير.. بل كنا ضجرنا وقلنا له: صه!.. اسكت!.. ولكن برق الخيال كهَربَ سحاب مشاعره فصور لن قلبه وكأنه قَطَاةٌ مسكينة أمسك الفخُّ جناحها فصارت تضطرب حتى الصباح لعلها تخرج وهيهات، وزاد الأمر لوعة بالقطاة أن لها فراخاً صغاراً جياعاً - هي عائلتهم الوحيدة - في عش تصافق به الرياح في جُنْح ليل بهيم ينتظرون عودة أمهم وهي تعرف ذلك وتتحسَّر وقد أمسكت كلاليب الفخ بجناحها..

٭ ٭ ٭

ويقول خالد الفيصل:

يا عَلّ قلب ما شكى الحب والتاعْ

تنهار من فوقه محاني ضلوعهْ

ياما نهيت القلب لا شكّ ما طاعْ

ما طاع يَدْلَهْ والليالي تلوعهْ

أثْر المولَّع دمعته تجرح القاعْ

وإلى ذَكر ما فات هلّتْ دموعهْ

يفز قلبي تاليَ الليل مرتاعْ

أخاف تبعد عن ربوعي ربوعهْ

فالخيال جعل الشاعر يجرد قلبه ويخاطبه وينهاه والقلب لا يسمع، سادر في هواه، مُدَلَّةٌ بمحبوبه «يفز تالي الليل مرتاع» خوفاً من فراق الحبيب، والبديل المباشر بلا خيال وهو (أفكر في محبوبي آخر الليل) شتان بينه وبين التعبير المحمول على جناح الخيال:

يفز قلبي تالي الليل ملتاع

أخاف تبعد عن ربوعي ربوعه

وكلمة (يفز) فيها انتفاض كلمع البرق يوحي.. ومع هذا فالشاعر يدعو على الخالين من الحب:

يا علّ قلب ما شكا الحب والتاع

تنهار من فوقه محاني ضلوعهْ

مع أن الحب يقلقه ويجعله (يفز تالي الليل).. لماذا؟ لأن جمال الحبيب كجمال الفن والشعر إذا أروانا زادنا عطشاً..

٭ ٭ ٭

ويحمل بساط الريح السحري الشاعر سعيد عقل إلى اختصار العمر في لحظة:

حلمتْ بك الدنيا وغنَّتْ

أَنجمُ الليل المُطلَّه

أغمضتُ أجفاني عليك

أضُمُّ فيك العمر كُلَّهْ

أي خيال يجعل أنجم الليل تتغنى بها.. أيُّ خيال؟ وكأنما أنجم الليل لم تُطلُّ من عليائها وتومض في سمائها إلا لتحلُمَ بهذه الحسناء!

ثم هو يغمض عينيه ليحلم بها أحلام يقظة، فكأنما يضم فيها العمر كله!

٭ ٭ ٭

ويقول ابن سبيِّل:

لولا الحيا لارقى طويل الرجومي

واصيح صوت كل من حولي أوحاهْ

لاجتني الفَزْعَه تريد العلوم

قلت آه ذا حب الحبيب وفرقاهْ

عليه قلبي بي الأضلاع يومي

أوماي صقّار لطيره ولا جاهْ

فلوعة الحب في قلب الشاعر تدفعه لولا الحياء ليصعد أعلى مكان في بلدته ويصيح بالناس طالباً النجدة.. ولكن النجدة من ماذا؟ من شدة حبه لمعشوقه وخوفه من فراقه، على هذا العشيق قلبه يرتجف ويمشي في صدره بذعر كأنه يد صقَّار يلوح لصقره الغالي ولكن الصقر لا يأتي فيزيد في تحريك يديه بلهفة وخوف.. قلب الشاعر يتحرك في صدره تحرك يدي الصقار.. ولولا الخيال لكان التعبير المباشر (يؤلمني حب هذا الحبيب حتى إن قلبي يخفق بشدة) ولكن الخيال لا يرضى بهذا يبعد عن التعبير المباشر.. يحمل معه المشاعر.. ويسافر..

٭ ٭ ٭

ويقول إبراهيم ناجي:

أمسى يُعَذِّني ويضنيني

شوقٌ طغى طغيانَ مجنون

أبغي الهدوء ولا هدوء وفي

صدري عُبَابٌ غيرُ مأمون

يهتاجُ إنْ لجَّ الحنينُ به

ويئنُّ فيه أنينَ مطعون

ويظلُّ يضربُ في أضالعه

وكأنها قضبانُ مسجون

وَيْحَ الحنينَ وما يُجرِّعني

من مُرِّه، ويبتُ يُسقيني!

ربيَّتُهُ طفلاً بذلتُ له

ما شاء من خفض ومن لين

فاليومَ لما اشتدَّ ساعدُهُ

وربا كنَّوار البساتين

لم يرضَ غير شبيبتي ودمي

زاداً يعيش به ويُضْنيني

كم ليلة ليلاءَ لازمني

لا يرتضي خلاًّ له دوني

مُتَنفِّساً لهباً يَهُبُّ على

وجهي كأنفاس البراكين

ويَضُمُّنا الليلُ العظيمُ وما

كالليل مأوى للمساكين!

هذا خيالٌ يسوق سحاباً ثقيلاً تجلده سياط الرعد وتضربه سيوف البرق فإذا به مطر يتلاحق: فالشوق رباه الشاعر صغيراً فطغى طغيان مجنون، وجرَّعه المُرّ، وامتص دمه، ولم يرحم شيبته، وضرب في ضلوعه بدون خروج كأن ضلوعه للشوق قضبان مسجون، قد سجنت الشوق في الداخل فلا يبرح الصدر، حتى في النوم يضاجع الشاعر ويقض مضجعه ويطير نومه بأنفاسه التي تُشبه أنفاس البراكين، وهو وشوقه مساكين، وما كالليل مأوى للمساكين!!

٭ ٭ ٭

ويقول دبيان:

والله أني على الهزعه غليل الضمايرْ

لو ذلولي من المطراش وان جَهَدْهَا

يا عشيري ترى لولا العيون النظايرْ

كان جيتك على الوجنا الوحيده وحدها

مَشْتَه مَرَّتَكْ لو كان بيعي خسايرْ

من حَسَبْ فايت الدنيا يبذّه عَدَدْها

يا وجودي على هَرْجَة خفي السرايرْ

وجد خَطْوى العجوز اللي توفي وَلَدْهَا

كلّ ما حلَّ له طاري تَهَلّ العباير

وكل ما قيل يا مرحوم تصفق بيدْها

فالخيال حمل مشاعر القائل نحو حبيبه ومراده من الدنيا، فلوعته على لقائه وسماع لذيذ حديثه كلوعة عجوز توفي ولدها، كلما مرّ ذكره هلّ دمعها، وإذا قيل يا مرحوم صفَّقت بيدها من جنون الحزن.. مسكينة هذه العجوز.. ومساكين أهل العشق!


(*)  جريدة الرياض اليومية، الأربعاء 15 رجب 1427هـ - 9 أغسطس 2006م - العدد 13925

مقاربات بين الشعبي والفصيح

مبسم هيا..!

محسن الهزاني (١١٣٠-١٢١٠ه) من أشهر شعرائنا الشعبيين، حتى لقبه بعضهم بأمير الشعر الغزلي، أحب (هيا) كما أحب قيس ليلى وعمر بن أبي ربيعة الثريا، وهناك شبه كبير بين شاعرنا والشاعر الأخير، فكلاهما مبدع في الغزل، معتد بنفسه، وكلاهما ذو نسب شهير، كما أنهما تابا وتركا الغزل آخر العمر، ولمحسن -رحمه الله- قصائد دينية تنبض بالصدق والإحساس..

. ومن عباءة عمر بن أبي ربيعة خرج عدد من الشعراء أمثال محسن الهزاني وأنور سلمان ونزار قباني، ممن تخصصوا في الغزل، ومالوا إلى النرجسية (حب الذات) على اختلاف في المسافات..

ورغم أن الهزاني في قصيدته الشهيرة (مبسم هيا) أكد أنه لن يتوب عن الهوى (الحب والغزل) إلّا أنه تاب فعلاً كما ذكرنا.. ولا غرابة في ذلك فالشاعر ابن لحظته فحين أبدع قصيدته الغزلية كان هائماً في العشق طائراً في الهوى، ثم مع تقدم السن عدل عن ذلك فتاب عن الهوى والغرام، ومحسن بشكل عام مؤمن فله قصائد تدل على الإيمان القوي منها (استغاثته) المشهورة والتي تُعتبر من (عيون الشعر الشعبي)

وقصيدة محسن الهزاني (مبسم هيا) من أجمل وأشهر قصائد الحب:

برق تلالا قلت عز الجلالا

واثره جبين صويحبي واحسبه برق

ومبسم هيا له بالظلام اشتعالا

بين البروق وبين مبسم هيا فرق

روشن هيا له فرجتين شمالا

باب على القبله وباب على الشرق

ياشبه صفرا طار عنها الجلالا

طويلة السمحوق تنزح عن الدرق

له ريق احلى من حليب الجزالا

واحلى من السكر اليا جا من الشرق

أخذت منها.. تتالا

يوم ان نسناس الهوى يطرقه طرق

جريت انا صوت الهوى باحتمالا

في وسط بستانٍ سقاه اربعٍ فرق

طبّيت مع فرعٍ جديد الحبالا

وظهرت مع فرعٍ تناوح به الورق

حنيت انا حنت هزيل الجمالا

تنقل روي الخيل قد حسه الفرق

فيا قلتن في عاليات الجبالا

ما ها قراح مير من دونها غرق

ماعاد للصبيان فيها احتمالا

من كود مرقاها يديهم لها طرق

قالوا تتوب عن الهوى قلت لا لا

الا تتوب رماح علوى عن الزرق

وقالوا تتوب عن الهوى قلت لا لا

الا يتوبون الحناشل عن السرق

وقالوا تتوب عن الهوى قلت لا لا

الا تتوب الشمس عن مطلع الشرق

والحبيبة جميلة دائماً.. ولكنها تكون أكثر جمالاً وسحراً حين تبتسم، وحين تضحك في حبور.. فالابتسامة أكثر اشراقاً من الكهرباء.. وأجمل طلة من بزوغ البدر بعد السحاب .. ثم إنها دليل الرضا والإقبال!

ومبسم هيا له بالظلام اشتعالا بين البروق وبين مبسم هيا فرق

وَصَاحِبَتي إذا ضَحِكَتْ.. يسيلُ الليلُ مُوسِيقى.. تطوقنى بساقية من ..النَهَوَنْد تَطْويقَا

. وعندما تنتاب العاشق كآبة فليس هناك مايبهجه أسرع من ابتسام محبوبته له..

ولشاعر المرأة والحب (نزار قباني) فيما يقارب الموضوع:

وَصَاحِبَتي.. إذا ضَحِكَتْ

يسيلُ الليلُ مُوسِيقى

تطوقنى بساقية

من النَهَوَنْد تَطْويقَا

فَأَشربُ من قرار الرَصْدِ

ابريقا فابريقا

تَفَنَّنُ حين تُطْلِقُها

كحُقِّ الورد تَنْسِيقا

و تشبعها قبيل البث

تَرْخِيماً وتَرْقِيقا..

أنامل صوتك الزرقاء

تُمْعِنُ فيَّ تَمزيقا

أيا ذاتَ الفَمِ الذَهَبِّي

رُشِّي الليلَ مُوسِيقَا..

ومن الأقوال المأثورة إذا ابتسمت لك فتاة وانت في العشرين أسرعت الى المرآة لترى الوسامة التي جذبت الفتاة إليك أما إذا ابتسمت لك وانت في الأربعين فإنك تعتقد أن مالك أو جاهك أو سيارتك هي التي جذبتها، ولكن حين تبتسم أمامك وأنت فوق الستين فإنك تنظر الى الخلف لترى اذا كان غيرك هو المقصود أو تبحث عن عيوب في مظهرك ولباسك لكن الشعراء قلما يعترفون بالعمر اذا صفّق طير الهوى في مشاعرهم

ورغم أن محسن الهزاني أكثر من شعر الغزل كعمر بن أبي ربيعة إلا أنه كان عفيفاً في حياته..

والشعراء يقولون مالا يفعلون.. محسن الهذاني مثل عمر بن أبي ربيعة.. غزل كثير وإعجاب بالجمال ولكن هنالك عفاف.. كما قال عمر بن أبي ربيعة:

إني امروء مُولَعٌ بالحُسنِ أتبعُهُ

لاحظَّ لي منه إلا لذّة النظرِ

جد وهـــزل

الجلال والجمال

عبدالله الجعيثن

حين نقرأ ديوان المتنبي نحس أننا أمام بحر زاخر متلاطم الأمواج مكنوز الثروات، ومنظر البحر فيه جلال، وحين نقرأ ديوان نزار نحس أننا أمام بحيرة صغيرة لكنها رقيقة تحفها زهور أنيقة فنشعر بلذة الجمال، لا يعني هذا طبعاً أن شعر أبي الطيب غير جميل، فإن للبحر جماله وللجبل الشامخ جماله على جلاله.

أبو الطيب قادر على التعبير عن أعماق النفس البشرية في كل زمان ومكان، لذلك تصيبنا قراءة شعره بالذهول أمام هذا العمق والصدق الواقعي الذي تم التعبير عنه بقوة وفن واقتدار، فكأن شعر المتنبي طريق واسع مرتفع وطويل شق بين جبال شاهقة وفيه جسور طويلة معلقة بين الجبال هائلة الارتفاع تجعل من يراها مدهوشاً يحس بالرهبة وجلال القوة، وللجلال جماله المنضوي تحته كفتاة حلوة أسندت رأسها الجميل على كتف عاشقها الفتي القوي.

أما شعر نزار، والبهاء زهير، والشاب الظريف، فإنه يشبه السهل المكسو بالمسطح الأخضر والمحفوف بالزهور، يسر العين ويمتع الأذن ولكنه يخلو من الروعة التي تهز النفس والدهشة التي تحرث الأعماق وتحرك أبعاد الوجدان.

يقول المتنبي:

نعد المشرفية والعوالي

وتقتلنا المنون بلا قتال

يدفن بعضنا بعضاً وتمشي

أواخرنا على هام الأوالي

ومن لم يعشق الدنيا قديماً

ولكن لا سبيل إلى الوصال

ويقول نزار:

وجلست في ركن ركين

تتسرحين

وتنقطين العطر من قارورة وتدمدمين

لحناً فرنسي الرنين

لحناً كأيامي حزين

قدماك في الخف المقصب

جدولان من الحنين

وإنما ضربنا مثلاً بنزار والمتنبي لسطوع الفكرة، وإلا فالجلال كثير في شعراء المعلقات، ولدى المعري، والجواهري، والسياب وغيرهم، والجمال منثور كالدر في أشعار أنور سلمان، وسعاد الصباح، والبهاء زهير، والشاب الظريف.