شعر أنور سلمان في مشارفه
د. علي شلق(*)
يدور ديوان الشاعر "أنور سلمان" في فلك الغزل، والوطن، وانطباعات عن رحلات في مختلف أصقاع الغرب، وأطراف بلاده التي ارتسم في آفاقها كاهن محبة، يصلّي، بقلب مبتهل وعین تبرق أو تدمع، واختیال المعجب الوفي، المزهو بفروسیة بین الحسان.
أسلوب الديوان يجري على نسق يترجح بین الكلاسیة والرومنسیة، بمدمكة معماري متمرس لم يفتر في الرصف أو يقع في التنزيه بحال.
إذا كان النقاد العرب القدامى كالجرجاني في رائعتیه: "دلائل الاعجاز، وأسر البلاغة" يرسم مقدار القیمة لما يقرأ الأديب بعبارة: "مَن أنت في شعره حتى تفرغ منه" ومعنى ذلك الاستلاب والسبي الذي عناه المتنبي في قوله عن "شعب بوان" في طريقه من أرجان ابن العمید "شيراز" عضد الدولة. وأشرك الترسان والخیل في الثأر بجمال المنظر الذاهل وجلاله، فرسم بهذه البادرة، وخفق المشاعر بقوله: لها ثمر تشیر إليك منه/ بأشربة وقفن بلا أواني/ طبت فرساننا والخیل حتى/ خشیت وإن كرمن من الحران".
ففي هذين البیتین من قصیدة كأنها قصر على رابیة، يرسم جمالیات فاض برسم صورها شعر ابن الرومي صاحب المطولات في الشعر العربي. ولم يقصر ابن الرومي في وصفه القدح في رسم الاعجاب، أو الاستلاب وبهما دهشة السامع أو الواصف، فكتب: "وبديع من البدائع يسبي/ كل عقل ويطبّي كل طرف/ تنفذ العین فیه حتى تراها/ أخطأته من رقة المستشف".
في هذا المناخ عبّر الشاعر الفرنسي "ألبير كامي" عن الاستلاب الشعري البديع لقارئ الشعر أو سامعه بأنه سفر به أخرج الإنسان من رتابة الحضور الرتیب في مكان، إلى ما هو جديد، ويُنسي، ويخلب. وهنا، عبّر بول "فاليري" عن الاستلاب بأسلوب آخر حیث أجاب سائله من الأكاديمیة الفرنسیة الذي رجاه أن يطلعه على شرحه قصیدته: "Le Cinetrer Marin" "المقبرة البحرية" فهمس "فاليري" له قائلاً: "لا تتعب نفسك فإنني عندما نظمتها كنت في حضرة المقدّس الأعلى، وأنا نسیتُ أمرها الآن، فاسأله: فیكون بذلك قد ردّد ما كان الجاهليون الشعراء به يعاودون قراءة النص، ويقدمون القصیدة لتعلق في جوف كعبة العرب تقديساً للشعر، الذي به سبقوا الأب "برسمون" الفرنسي الذي رفع الشعر إلى درجة القداسة.
وبذا عندل الاخطل الصغیر في إحدى رائعاته بقوله:
"وبجعل الشعر ربّاً يسجدون له...". بهذه التوطئة أشفع انسيابها بصور من شعر أنور سلمان. إشارة إلى حضوره في عصر التطور الشعري عما قبل، وحیث يلتقي بما رسمه ألبیر كامو عن الشعر والسفر: ستون عاماً، كلها حوّلتها/ شعراً رسمت به تجارب ذاتي/ ستون عاماً كنت فيها باحثاً/ عن مرفإ ترسو به مرساتي ويقفز مستأنساً في عالم الأشباه والنظائر لیستوحي ابن الفارض بقوله: "عني خذوا وبي اقتدوا.../ وتحدثوا بصبابتي بین الورى".
في هذه المحطة الأولى من الديوان التي جنّح فيها الشاعر قلبه لیطیر في آفاق الحب، وهذا المناخ ينسحب ساطعاً في آفاق ديوانه كله، فالشاعر أنور سلمان هو صدى
نبضات قلبه وبريق عینیه مأخوذاً، الذي تعبّد للجمال.
في المحطة الثانیة من ديوانه وبعدما يزيد على التسعین صفحة من مجموعة رقیمات ديوانه معظمها في حب الذات التي تسكن أعماقها حسناؤه يلتفت، ويرسو شراعه على شاطئ حب آخر، وهذا الوله الجنسي الذي نسبه علماء النفس إلى كل محبوب بعد ذا، وفي الأفق الثاني من الديوان يترسم الشاعر أنور سلمان عاشقاً مبدلاً، لا معوضاً، فیجنح قلبه الخفاق بحب وطنه لبنان، فبعد اسمها، سطع اسمه: بذلك الوطن المقدس لبنان:
"أكتب اسمك فوق النارْ
فوق الورد
وفوق الغارْ
أكتبه فوق مرايا الشمس
وفوق جباه الأحرار" (ص 98)
هذا حب، موقف، معبد، يذكّر "بهولدرن" عاشق قريته، وطنه، وذلك ما تعبّد له ابن الرومي في كافیته التي رسمها بعبارته المشعّة بسطوع مشاعره: "مآرب مضناها الشباب هنالكا". والقسم الثالث من الديوان الذي يتناول ما يداني خمساً وعشرين صفحة ختمها بالتعبّد لأمیرة الحلم، أحلى حلاوات العشق، بیروت تلك التي رسمت عالمیا عاصمة الثقافة في الوطن العربي:
"بیروت كم شربت دموعك موجة
وشكا جراحك موجعا قمر حزين
وكأنما أتت الحضارة، عمرها
زمن توقف عنده سفر السنین
ولكم رفعت من اعتزازك راية
وكسرت أحلام انتصار الفاتحین
والفنّ تاج فوق عرشك
فاعتلي
أحلى، يصیر التاج إن
كنت الجبین"(*)
(*) أديب وأستاذ جامعي راحل.
(*) ديوان الشاعر أنور سلمان عنوانه "أبحث في عینیك عن وطن"، صادر عن دار الآداب.