مقدمة كتاب"مرايا لاحلام هاربة" أنور سلمان
بغصَّةٍ أكتبُ عنه، ودَمعةٍ حَرّى... أنور سلمان، رفيقُ البدايات، في الزمنِ السعيد، صديقُ العمر، الشاعرُ والانسان الطيّب الشَهْم، اللبنانيّ المعروفيّ، ابنُ الجبلِ أصالةً وتجذّراً، المدينيُّ انفتاحاً، أبو العيلةِ السعيدة، أدمى القلوبَ رحيلُه الفاجع... هو الرقيقُ هُياماً، الأنيقُ إطلالةً، نجمُ الأُمسيات ورونقُ المجامع، خُطِفَ من دنيانا التي حلاّها بقصائده، تبعثـرَ أشلاءً على طريقِ العودةِ الى منزله... فوددتُ لو أُلملِمُ حَبّاتِه، سُبْحَةً لصَلاة!.. فيبقى ماثِلاً في البالِ والأَحداق، مالئاً فضاءنا جمالية، مدوّياً في أسماعِنا أبياتاً وقوافيَ، تخرُقُ الصَمْتَ، تَهْمسُ في الهدأةِ...
فجأة رحلَ أنور... ثم ها هو يعودُ، على صفحاتِ كتابٍ جديد، يُضاف إلى عطاءاتٍ سخيّةٍ زانت المكتبة اللبنانية، وما بَرِحَتْ تَتَوَهَّجُ، في مواعيدِ التَصابي، بين غزَلٍ وتأمُّلٍ، عُرفٍ وعرفان، وأحلامٍ مستحيلة!..
عاشقٌ ولهان، حالم، متوحِّدٌ، مؤتلفٌ ومختلِف، عجولاً على صهوةِ العواصفِ حيناً، أو متهادياً على النسائمِ اللِطاف، يُنادِمُ، يُسامِرُ، يُعندلُ، يَختالُ... وصّافٌ، رسامٌ دقيق الريشة، إبداعيُّ اللون، يَعْبُرُ اللحظةَ، يستعيدُ الحالةَ ويؤبّدُ الرِعشةَ الهاربة!
ديوانُ أنور سلمان، إِشراقةٌ جديدة، عودةٌ مُحَبّبة، بعدَ غيبةٍ صاعقة، تُضافُ إلى تأكيداتِ بقاءٍ، مجموعاتٍ مُحَلّاةٍ، استلَّها من عمقِ نفسِه الشاعرة، صاغَها
مقطوعاتٍ وأبياتاً.
لن أدخلَ بين الديوانِ والقارئ، تحاشياً لإيحاءٍ قد يتطفَّلُ على خصوصيّةِ العَلاقةِ المباشرة، فلا تُرهقُها، أو تعترضُها، شروحٌ وإضافات: قيمةُ الفكرِ ذاتيةٌ، ولكُلٍ أن يتذوّقَ ما رَشَف!
... ويا أنور، بعد رحيلك، صدر كتاب "الثريّا"، الحلقة التي انضممتَ إليها في آخرِ مواسمِها، شاركتَ في خاتمةِ أُمسياتِها، ازْدَهَتْ بك، مع الشعراءِ والأدباء الذين أشعّوا في مَدارِها: جورج غانم وميشال نعمه، جوزف أبو جودة وجان جبور، رحمهم اللـه، وشوقي ابي شقرا، نور سلمان، جورج شامي وريمون عازار، حفظهم الرب، ورَفَدتُم المكتبةَ اللبنانية ، شعراً ونثراً، بأبهى المجموعات... صدرَ الكتابُ يا أنور، وفيه إحدى المقدّماتِ التي أودعتَها لديَّ، مع صورتِك على المِنْبَر، وفاءً بعهدِ المحبةِ وأمانةً للرفقة، حتى الرمقِ الأخير! .. وكم سنفتقدك، غداً، عندما نحتفلُ بصدورِه مع جامعة السيدة – اللويزة، التي حَضَنَتْهُ، حفاظاً على ارثٍ وتكريماً لرعيل! ..
أخيراً، لمَن لا يعرفُك جيداً، وقبلَ أن يقرأك، أقول: حَسْبُ أنور سلمان أنّه شاعرٌ لبنانيّ، دخلَ شِغافَ القلوب، فلا يُغيّبُه ردىً أو تَصْرَعُه مَنون... تخطّى الموتَ قيامةً، وخلّى الذهابَ إياباً... بوركتَ يا رفيقَ "حياة"، حبيبتِك وملهمتِك، وأبا ربيع ويسار ونشأت، الثلاثةِ النُجُبِ، على دربِ الرسالة... حتى نلتقي!
جزّين، 18/11/2016 إدمون رزق
********************************************************************************************
كلمة إدمون رزق
في تكريم الشاعر أنور سلمان(*)
معتّقٌ في دنِّ الوحي
لقيتُه في الزمن الطيّبِ، يوم الشّعر موسم مقبلٌ، بواكير وغلال، أمسيات إنشاد، وجلساتُ ملهَمين. عهد الأدب نهضة، قِبْلةُ جيل، وهوى طامحين...
كان بالقلم البدعُ، والريشة تلويناً، بالوتر ألحاناً، واللّهاة عندلةً وصُداحاً...
وكان عرسُ الثقافة، في لؤلؤةِ المتوسّط، بيروت، عاصمة الحضارة مشرقاً، وموعد عربٍ مع وهج عالم، بألف عبقرية يشعُّ.
في الذاكرة الماهدون، وعلى مسمعِ طلائع المجوّدين، ومطالع القصائد. المخضرَمون على مقرُبةٍ، بيننا المتقدّمون، منا وحولنا فتية عاشقون، لعبتهم القوافي، محاولات في مدى المستحيل، وأشرعةٌ خافقات في الاربع الرياح!
كنّا مأخوذين بالشعر، قديمه والمُحدَث، فكأن بيننا وبين العمالقة انساباً، ولنا على الكبار دالّة، ومع المعاصرين وحدةَ حال، ما حدبوا علينا وأخذوا بأيدينا، ولكنتُ لولا التوقيتُ، استحضرُهم وِحداناً، ملحميين، رومنسيين، مجدّدين، صادرين عن أصالة، مضاربين على حداثة...
أول الخمسينات، كانت "الثريا"، مع ميشال نعمه وجورج غانم وشوقي ابي شقرا ونور سلمان وريمون عازار، جورج شامي وجوزف ابو جوده وجان جبور، ثم أطلّ أنور سلمان، هلَّ واكتمل.
صديقي أنور، معتّق في دنِّ الوحي، متجذّر في الجبل، خاضَ تجارب العمر، وشاد الكلمات عمارات، أغنياتٍ تُطرِب، وأناشيدَ تُلهِب. أحبّ وأنجب، معه "حياة"، ولهما ربيعٌ، ويسارٌ، ونشأت، وفي عِلّيين ايهابُ، وبطاقاتٌ تلوِّنُ الزمن افراحاً وأعياداً.
يا له بحّاثةً عن وطن، في عيني امرأة تختصرُ النساء. وهل، بعدُ، وفاءٌ اكبر، من أن يعشق الحسان من أجل امرأةٍ واحدة، يراها في كلّ امرأة... بل، هل أشعر، بين بدوٍ وحَضر، وأمم، من صبٍّ ولْهان، أبديّ الترنّح في حلقات الوجْد، تَوقاً إلى الاتحاد بالمعبود؟
باعدت بيننا سنونُ عجاف، وبقي في بالي، حتى تولّيتُ وزارة الإعلام، للمرة الثانية، منذ خمس عشرة سنة، فسألتُ عن أنور، ودعوتُه للمشاركة في أحياء الثقة بالوطن، عَبْرَ لوحات من شعره، كانت ذروة التعاون، فكرةً وأداء، وما زلتُ اعتبرُ ذلك العطاء من أروع ما جادت به قريحةُ أنور، ومن أجمل قوله وصفُ العَلَم:
من قمرِ الأحزانْ،
من نارٍ ودخانْ،
لملمتُك من جُرحٍ أحمرْ
ورسمتُكَ باللّون الأخضرْ،
فوق بياض الثلج
فكانْ
إسمُكَ، صوتُكَ، قلبُك
يا لبنان!
وهل ابلغُ استنهاضاً للهِمَمِ من قوله:
آتٍ من الدمارْ
تمشي على الآلامْ
تُزهِرُ كالأحلامْ
تنهضُ من حرائقٍ
تولَدُ من قرارْ
وتصنعُ القرارْ
يا وطني!
هذان نموذجان لما زوّدنا به انور سلمان، في تلك المرحلة الصعبة من المعاناة الوطنية، إذ كنا نتبادل الرأي حول الفكرة، فيصوغها، ثم يلحّنها وجدي شيّا، ويخرجها سمير درويش، وتنتجُها وزارة الإعلام وتلفزيون لبنان؛ وقد تمنّيتُ عليه أن ينشرها في إحدى مجموعاته، لما تمثّله من مواقف، وتوحي به من ثقة في المستقبل.
أنور سلمان، ايها الأصيل عنفواناً، المنفتحُ ثقافةً، أيها الشاعر العاشق، الدفّاق العاطفة، العَفْويُّ الطيّبُ، الصادقُ مع نفسك والاخرين، الممتلئُ وطنيةً، المعبِّرُ عن تطلعات جيلٍ وكرامة شعب.
يا من كان على عهود المودَّة أميناً، وما برح وفياً بالقيم،
إنني لسعيدٌ بالمشاركة في تكريمكِ، والثناء عليك، والدعاء لك.
(*) قصر الاونيسكو، الاثنين، 24/5/2004.