كلمة الشاعرهنري زغيب في احتفال كتاب "القصيدة امرأَةٌ مستحيلة" لأَنْوَر سلمان

(قصر الأُونِسكو - بيروت - 19/12/ 2008)

كان متسوِّلٌ ضريرٌ يقفُ يوميًّا على جسر بروكْلِن في نيويورك، على صَدره لوحةٌ خشبيَّة تحمل عبارة: "أَنا أَعمى... ساعِدُوني". وفي نهاية النهار كان يجمَعُ حفنةً ضئيلةً من نقودٍ تتكوَّم في حقيبته الصغيرة.

مرَّ به يومًا رجلٌ قال له: "أَعطِني هذه اللوحةَ الخشبيَّة. أُعيدُها إِليكَ بعد قليل فأُضاعِفُ لكَ نقودَك". وهكذا كان: نزَعَها وعاد إِليه بعدَ سُويعَةٍ سريعةٍ مُعيدًا إِيّاها على صدره. ولأَن المتسوِّل ضريرٌ لم يعرف ما حدث في اللوحة. إِنما لاحظَ بعد يومين أَنَّ نُقودَه ازدادَتْ فعلًا في حقيبته الصغيرة. سأَلَ أَحَدَ رِفاقِه: "أَتقرأُ ماذا على صدري في هذه اللوحة"؟ وقرأَها له فإِذا مكتوبٌ عليها: "قريباً يُطلّ الرَبيع ولن أَستطيع أَن أَراهُ مثلَكُم".

ذاك الرجل الذي غيَّر العبارة على اللوحة، كان... شاعرًا. هذا لأَقول إِنّ الشاعرَ ساحرُ الكلمات. فذاك التأْثير في تلك الكلمات على اللوحة لا يبتدعه إِلَّا الشاعر. فمن عناصر الشِّعر: الإِدهاش.

رأَى نزار قبّاني في مقدمة ديوانه "طفولة نهد" أَنّ "الشِعر كهرَبَةٌ جميلة". لو انَّهُ كتب: "الشِعر كهربةٌ" وتوقَّف، لكان المعنى ناقصاً، فالكهرباء تؤْذي وقد تُميت. لكنه أَضاف: "كهربةٌ جميلة". هذا لنقول إِنّ الشِعر يُدخِلُ فينا رِعشَةَ الجمال.

ونحن اليوم في الاحتفال بكتابٍ يُدخِلُ فينا رِعشَةَ الجمال. والشِعر هو هذا الـمَسُّ الجميل ينقُلُنا من الـ"هُنا" إِلى الـ"لا هُنا"، إِلى حالةٍ ثانية، حالةٍ انخِطافيَّة رُبَّما، جماليَّة رُبَّما، ساحرةٍ رُبَّما، لكنَّها حالة ثانية. هُنا عبقريَّةُ الشِعر. لكنَّها، هذه العبقريَّة، يجبُ أَن تأْتي بسيطةً بِدون تَصنُّع، وبدون انفعاليَّة واضحة.

كان النحات رودان في محترفه حين زاره يومًا صديقٌ وقفَ أَمام تمثال "المفَكِّر" فسأَله: "كيف تمكنتَ هكذا من نـحْت هذا التمثال؟ لكأَنَّه سينْطُق". أَجاب رودان: "الأَمر بسيط: جئْتُ بالصَّخرة كما هي، أَزَلْتُ عنها الزوائد، وهذا ما بَقِيَ".

أَنْوَر سلمان في كتابه، هذا ما فعَله: أَزال الغُبارَ عن لُغة الشِعر. في مقدّمة الكتاب أَوضح صديقي جوزف حرب: "في شِعرنا وزنٌ، وفي شِعرنا مقام". والمقام هُنا يعني الهويَّة، يعني البَصمة الخاصة. صحيح. كُلُّ شاعرٍ ليس في شِعره مَقامٌ خاصٌّ به، لا يكون في نعمة الشِعر. الشاعر أَن يكون ابنَ شِعرِه هو، لا تَقليدًا ولا مواصلةً ولا اتِّباعًا. الشِعر هو الإِبداع وليسَ الاتِّـــباع.

ويا أَنور، مرَّتين قرأْتُ كِتابَك: الأُولى كي أَكتشف الجمال فيه، وأَنت ابنُ الجمال في الشِعر وابنُ الجماليا في التعبير، والمرة الأُخرى لكي أُقَشِّر القَصيدة. ويجب أَن نعرف كيف نُقشِّرُ القصيدة كما نُقَشِّر بَتْلاتِ الورْدة كي نصل إِلى مَنبع الأَرَج. هذا هو سِرُّ الشِعر، وكُلُّ ما عدا ذلك ثانويّ.

ويكون أَنَّ أَنْوَر ابنُ الكلاسيكيَّة، هذه التي لا إِلى انتهاءٍ مهما تتالت العُصور. فالكلاسيكية بَـحرٌ لا مَوجة.

يُقال عادةً: "هذا شِعرٌ حديث". ويقصدون بـ"الحديث" تلك الأُحجيات تقرأَونها على صفحات الجرائِد وفي عشرات الكُتب. تلك ليست مطلَقًا من الشِعر. الشِعر موسيقى، الشِعر وَزن، الشِّعر مَقام، كما كتبَ جوزف حرب في المقدمة. وإِلّا فهو من النثر. وماذا يَضيرُ الكاتب أَلّا يكون شاعرًا إِن كان نَثرُه جميلًا وجيِّدًا وجماليًّا وَراقيًا؟

يُقال أَحياناً إِنّ البلاغةَ وضْعُ الكلمة المناسبة في المكان المناسب. هذا يصُحُّ في النَثر. أَمَّا الشِّعر فهو وضْع الكلمة التي لا يَصُحّ إِلَّاها في هذا المكان المناسب.

النَثر العاديّ فوتوغرافيا، والشِعر لوحةٌ زيتيَّة. أَمام مَشهدٍ يعجبني، أَلْتقِطُ الكاميرا وأُصَوِّر، فتأْخُذ الكاميرا المشهد كما هو. أَمّا إِذا أَردتُ رسْمه لوحةً زيتيَّة، فأَتفنَّنُ في الخطِّ، في اللون، في الظِلال، في الأَضواء حتى تكون نحتاً لونيًّا جميلاً على القماشة البيضاء. هكذا شاءَ الله أَن يكون الشاعر.

لست هنا في قراءَةٍ نقديَّة. أَنا هُنا في شهادة. وأَشْهَد أَنّ هذا الكتاب "القصيدةُ امرأَة مستحيلة" هو في قلب الشِعر.

فأَبْـحِرُوا هانئين في جمال هذه "المرأَة المستحيلة".

أَنْوَر سلمان، هكذا نفرح بكتابك.