أنور سلمان في جديده بين واقعين: مفروض ومقبول(*)

جوزف عساف(**)

قد يحمل عنوان المجموعة الشعرية التي صدرت حديثاً لأنور سلمان عن دار الآداب بيروت "بطاقات ملونة لزمن بلا أعياد" شيئاً من التشاؤم أو من النظرة الوجودية التشاؤمية، ولكن المستمر في قراءة المجموعة والمتمعن في مضامينها ودلالاتها سرعان ما يكتشف أن صاحبها اراد فيها، بتصويره زمناً بلا أعياد، أن يحيي زمناً بأعياد يكون له بطاقاته الملوّنة...

والعنوان الواقعي والعنوان الاستنتاجي للكتاب يمنحانه، ومن دون كثير استنتاج، منحى واقعياً، فالجدلية بين الزمنين جدلية واقعية أو هي جدلية عقلية – شعرية مفاضلة ومحاولة تجاوز واقع مرفوض مفروض إلى واقع مطلوب مقبول. وضمن هذا الإطار يبقى الشاعر منجذباً تارة إلى عقله الواعي مأساته وتارة إلى روحه الرافضة هذه المأساة.

والواقعان، المرفوض المطلوب، يختصرها الوطن في زمنه، المقاتل والمسالم، العابس والضاحك، المستغلّ والحر. وهذه الروح الوطنية المعانية تنسحبُ على مجمل الكتاب. جاعلة من الوطن القضية الشعرية أو الرمز الشعري الذي كيفما تجوّلت بين القصائد، حتى العاطفية فيها تراه واضحاً...

وكثيراً ما يوحد الشاعر بين حالته الذاتية والحالة الوطنية أو حالة الوطن في به حلولية عاطفية ووجدانية. فالوطن هنا هو الإنسان والإنسان هو الوطن. وكما يتألم الإنسان ويفرح ويأمل وييأس ويحب ويكره هكذا الوطن... ولما كان زمن الإنسان وزمن الوطن متحدين برزت ذاتية شعرية غنائية شكلت الميزة الثانية للكتاب بعد الواقعية. وبتعريف أدق للكتاب واقعي – ذاتي من دون أن تتناقض الذاتية مع الواقعية من حيث انهما يندمجان هنا باندماج

الحالة العامة (الوطن) والحالة الخاصة (الشاعر).

يقول الشاعر مناجياً الوطن:

"ما دُمتُ لي سفراً مع الأحلام...

وهماً،

وبعض تخيّل،

وكلام!

ما دام وجهك سيرة مطبوعة

بمواقف التجار والحكّام..

ما دام حدّك في المسافة ضائعاً

وطريقنا

مزروعة بالشوك والالغام...!

ما دمت تبدأ في الكؤوس وتنتهي،

وتفيق في ليلِ الهوى وتنام

فإلى صباحك

دمعةً من شاعر

وعليك – يا وطني – التحية والسلام (ص 40-41)

وتستمر قصائد أنور سلمان مؤطّرةً بالزمان والمكان حتى في عاطفياته. فالحب هنا ليس تهويمياً ولا هو موضوع ذاته. بل هو مناسباتي وموضوع في إطار من الوعي (أو الواقع) شبيه بالإطار الذي تعامل من خلاله الشاعر مع الوطن. وبهذا يبتعدُ سلمان عن لعبة "الشعر للشعر" أو "القصيدة للقصيدة"، ويقترب بحرارته وموضوعيته وذاتيته من لعبة "الشعر القضية" أو "الشعر الحالة" أو "الشعر الانتماء" من دون أن يخوض أو أن ينغمس في واقعية مسطحة أو ذاتية تغييبية نقرأ من قصيدة حب في المجموعة:

عتابك حلوٌ على مسمعي

فما شئتِ رشّي عتابا

عليّا.

احبك غضبي... اعيدي

اعيدي

عليّ الهتاف بلوم جديد،

وذوبي عتابا على مسمعيّا

وثوري.

وردّي الأمان إليّا! (ص 65)

على أن ذاتية أنور سلمان، على واقعيتها، كثيراً ما تجنح نحو اجواء التشكي والتوحُّد، على أن هذه الاجواء لا تنتمي، كما أسلفنا إلى الفكر التشاؤمي ولا تقرّبه، بل لعلّها من طبيعة الشاعر في هواجسيته وتوحده وانطوائيّته ورومانسيّته الجميلة. فكل حالة شعر حالة جلوس إلى الأوراق جلوس تألمي... يقول الشاعر في قصيدته شيء من لا شيء.

"من أول النهار حتى آخر النهار

اترُك بابي مُشرّعاً

للصمت

والرتابة

أجلسُ خلف مكتبي

أمارس

الكآبة.

انتظر في يوميتي... أطالع الأيام.

لا شيء في جريدة الصباح كي أقرأه

صار سواء

كل ما تحمله الأيام... من أخبار!

...

وخوف أن انام" (ص 48-49).

وأخيراً، فبطاقات أنور سلمان الملونة ستبقى تنتظر زمانها الملون، ولا يبدو أنها يائسة من حلوله، بدليل الواقعية التي مهرتها بها يد الشاعر. ينتظر وننتظر معه...


(*) بطاقات ملونة لزمن بلا اعياد، صادرة مؤخراً عن دار الآداب في 158 صفحة من القطع الوسط.

(**) كاتب وناقد لبناني.