ثورة هادئة ولوحات جمالية لها رموزها ودلالاتها
كمال فضل الله(*)
يعيدنا الشاعر أنور سلمان في ديوانه "بطاقات ملونة لزمن بلا اعياد" إلى ينابيع الشعر قافية ووزناً يتخذ من التفعيلة، ريشة يلون بها المشهد بما يتفق مع بعده الجمالي، وما يختلج في النفس من حب وغضب وثورة وحالات إنسانية.
ونتأكد من قصائد الديوان أن الشعر بمفهومه الحقيقي ما زال بخير يعيش مجده المستمر مع نزعات النفس البشرية وتعدد الحالات الاجتماعية وما يفرضه المشهد من تعبير يصبح متداولاً أو قاعدة، ويقف صامداً وشامخاً في وجه التفلت من جماليته وموسيقاه ومراميه الفكرية والاجتماعية يسخر وهو على المشارف والربى يستجلي الآفاق البعيدة ويسبر غور النفس البشرية، من الراقصين المطبلين عند السفح لافتقارهم إلى أجنحة التحليق وعزيمة الغوص بحثاً عن الجوهر، فيرضون بكلمات غير متجانسة لا تنبت على شواطئها الزهور ولا ترتادها العصافير، ثم تجفّ انهار هذه الكلمات من دون أن تنبت عشباً أو تسهم في نشر الربيع.
ونقرأ قصائد الشاعر أنور سلمان فنجدها تعبر عن شرائح متعدّدة من المجتمع عاشوا أو يعيشون الواقع ذاته يحبون ويعشقون ويتألمون مما هو قائم من خطأ ويسعون إلى رسم ما يجب أن يكون بالحوار العقلاني الهادئ أو بالهدم لإعادة البناء على قواعد راسخة من العدالة والعلاقات الإنسانية والتطلّع إلى الأفضل، فالقافية في مكانها لا تستدرج المعنى أو تقلب الفكرة بل تأتي متوافقة ومنسجمة، حتى إذا كان هناك انطلاقة تحرّر منها لم تشعر بغيابها من خلال التزام التفعيلة والجرس الموسيقي كما يكون التجوال في روض لا تختلف سبله وإن تعددت إلى الإلمام بالفكرة واعطائها للقارئ بيسر وسهولة لا تجنّب العمق وفتح العيون على لوحة جديدة تحتفظ بالظلال والالوان.
تبدو على قصائد الديوان المحبة ممزوجة بعدم الرضا، وهمسة الشوق تعلو فوقها صرخة المرارة وكأنك ترى الوردة تتحول جمرة ملتهبة تحرق ما يبس من فروع الظلّ الوارف ليبقى كله اخضر يعد بالثمر والزهر، ترق هذه القصائد وتمضي مع نسيماتها الندية ثم لا تلبث أن ترى البحر الساكن الهادئ يضجّ بالموج الهادر والاعاصير الهوج تكتسح ما على السطح ومن يجدفون عكس رياح المجتمع وتقدمه وسلامه أو أمنه.
القصائد ليست طوالاً إلا بقدر ما تستوعب المعنى بعيداً عمّا يوصف بالحشو أو الاطالة، تتناغم قوافيها وتعطي الجرس المطلوب ويتم الاستغناء عنها عندما يكون المعنى يوجب الاسترسال والبعد عن التزام غير المعنى المراد وبكلمات مختارة تناسب ما يكون الشاعر بصدده، مع البعد عن الاستعارة إلا ما يضفي على المعنى جمالية وكذلك التشبيه واللجوء إلى الرمزية التي لا تحتاج إلى جهد لحلّ أحاجيها فهي توصل القارئ إلى فكر الشاعر وما يرمي إليه حتى أن الألم الذي يحسّه يبقى هادئاً ولكنه محرك فعال بحثاً جماعياً عن العلاج ما دام هذا الألم جماعياً وجرحاً في جسم الوطن والمجتمع.
وفي بعض القصائد يلمّح القارئ شيئاً من نزار قباني ولكن بشخصية مختلفة وشيئاً من ثورة سليمان العيسى مثل قصيدة "إفادة في محكمة الغزاة".
إسمي جنوبيَّهْ.
سجِّلْ على المحضرْ
سجِّلْ وحدِّقْ غاضباً فيَّهْ،
واصْفَعْ بِكَفِّكَ وَجْهي الأسمرْ،
إسْمي... مُقاوِمةٌ جنوبيَّهْ.
أمِّي اسمُها الثَّورهْ.
عُمري؟
وأين أُقيمُ؟
في جُرْحٍ
صَحاً يوماً على مأساته المُرَّة!
مأساةِ شعبٍ... أرضُهُ اغتُصِبَتْ
على مرْأى
من "الأممِ" التي وَعَدَتْ، ولَكِنْ
ما وَفَتْ مَرَّة!
ونحن نحفظ لسليمان العيسى:
مَن أنت دحرجة المحقق عبر همهمة سؤالا
وعلى مكدسة من الأوراق بين يديه مالا
وإذا المراد عروبتي... بالضحى نسخ الظلاما
ثم:
فوددت لو اني صهر بقلب صاعقة وجودي
ومضيت اكتسح الحدود وحدود من خلفوا حدودي
بالنار أن تتكلمي ودعي الشكاية للعبيد.
وهذا نجده قاسماً مشتركاً بين الشعراء قديماً وحديثاً عندما تتشابه الحالات والمواقف. ومن هنا نجد عند الشاعر أنور سلمان كما عند غيره زهرة أو أكثر مشتهاة يضعها بين زهور غرسها وجناها.
وفي فاتحة "بطاقات ملونة لزمن بلا اعياد" تستوقف القارئ قصيدة أعارها صاحب الديوان اهتماماً خاصاً اختار منها أبياتاً مكتوبة بخط جميل على الغلاف، مما يشير إلى أن لها حكاية وقصة لا تخرج عن الخصوصية التي تنسحب على تجارب مماثلة وفيها:
تَلهو بِنا الأَعْيادُ.. تَسْرِقُ عُمْرَنَا،
وَنُحِبُّهَا بِبَراءًةِ الأَوْلادِ...!
هَلْ جِئْتِني،
وَجَوارحي مُنْهَدَّةُ،
والجَمْرُ أَطفَأةُ رُكَامُ رَمَادِي؟
لَمْ يَبْقَ في شِفَتي كَلاَمُ للِهَوى
وَقَصَائِدُ وَرْدِيَّةُ الإِنْشَادِ.
فَأنا..
طَوَيْتُ عَلى الحَنِينِ دَفاتِري،
وَحَمَلْتُها قَمَراً لِجُرحِ بلادي
حلو هذا الإهداء، واردة استمرار حتى لا تتوقف القافلة إلى الهدف.
يستهل الشاعر قصائده بالتغني ببلاده أو بالغزل العذري ليقودنا بهدوء ومن دون تكلف إلى ما يريد. فبعد الغناء والحدو يصل في قصيدة الراوي إلى القول:
نلمح الدمعة في عين الرسائل؛
ونرى الأيدي التي ترفع رايات السلام
تطلق النار على
كل الكلام
وفي قصيدة تليها تحت عنوان "1943" يصل إلى القول:
فبنينا معبداً للشمس فيها
زينت جدرانه الحرب
بلوحات
خطانا
لشياطين السياسة
ويصرخ الشاعر بعد ذلك في قصيدة تليها:
طابت الحرب على لبنان
صارت
غصصاً سوداء في القلب
ودمعاً في الجفون
وغدت حالة رعب
سكنت منا جباها
وعيون.
ويسخر الشاعر من "الحوار" المستمر بلا جدوى فيقول:
نقتل الوقت ونمضي
في متاهات الحوار؟
وتمضي مع الديوان على هذا النمط يقودك صاحبه في البداية على الورد ثم يواجهك بالحقيقة فيعيدك إلى التأمل والى العمل.
والاسلوب الهادئ في المعالجة وصولاً إلى الأفضل هو الأفضل في النفوس بعيداً عن تشابك الضجيج والاصوات العالية وهذا نمط يعتمده الشاعر انور سلمان وليس غريباً عن شخصيته الثائرة الهادئة يتحدث حيث يجب ويبتعد حيث لا يكون الصوت مسموعاً، أصدقاؤه كثر لكنهم قليل.
وقد قدّم فكره وشعره في ديوان على امتداد مائة وثمان وخمسين صفحة، صادر عن دار الآداب بطباعة انيقة يزينها الشكل وهي تعطيك رؤية الشاعر واحساسه المرهف بما يحيط به وبنا.
(*) كاتب وناقد لبناني.