أنور سلمان شعاع الحب

وشعاعية القصيدة

د. قصي الحسين(*)

عام مضى على رحيل أنور سلمان (1938 – 2016)، أحد رواد الشّعر اللبناني الحديث، إلاّ أنّه ما يزال محور الحديث عن الشّعر وعن رحيل شاعر، في بلد هو الأغنى من بين البلدان العربيّة جميعاً بشعرائه وبزخم عطائهم الشعري. وهو الفنان الذي كان بين من صاغ أبجدية الحداثة والمعاصرة في الشّعر العربي الحديث، وقد غذاه بمعطيات محلية لبنانية، تتجاوز الآني، إلى ما هو جديد عند الآخرين، في رؤيتهم الفنية، معمقاً العلاقة في ما قدم من شعر ونثر بين اللّغة البصرية واللغة التجريدية وبين اللّغة التصويرية، بل بين الواقع والطموح، على نحو فريد، قلما تسنى لغيره من الشعراء اللبنانيين، الذين رافقوه في مسيرته الشعرية المعاصرة.

أنور سلمان، هو الشاعر الذي عمل على امتلاك لغة الشّعر الماديّة المباشرة، وهي مدرسة خاطبت أحاسيس المرأة بكل قوة وبكل جرأة، بدل أن تجعلها حبيسة التوريات والغلالات. إنها المدرسة الحسية في الشّعر العربي ورائدها امرؤ القيس وخادمها نزار قباني، وبينهما، يتقدم أنور سلمان، لا على عجل ولا على استحياء. فهو شاعر الشعلة التي تنير درب الشّعر ودرب الحب ودرب الحسناوات. يقول الشاعر: لا تبحثي في هذه الصفحات/ عما يدور بخاطر الكلمات/ أو تسأليني: ما العبادات التي أوحت إليّ بهذه الصلوات/ أنا... كل ما دارت عليه أصابعي، أني سكبت مشاعر بدواتي/ وبريشتي حاولت... فوق دفاتري، تصوير ما قالته لي مرآتي. (القصيدة: امرأة مستحيلة، ص 9).

واللغة الشعرية عند أنور سلمان تمثلت في بعدين أساسيين: البعد الذي تشخص في تلك التمثيلات الأنثوية، التي عرفت لدى المرأة العربيّة تاريخياً، والبعد الآخر المتمثل في ما أطلق عليه تسمية الغزل الصريح. وقد عاين في الحالين، حاضر المرأة العربيّة، مستقصياً تشكيلاته في الواقع المحسوس، كما في المرتجى المأنوس. وكان من خلال ذلك يريد أن يسجل قصب السبق في الوصول إلى جوهر الشّعر، عبر رؤية تجسد ما للمنظور من خصوصية وجمالية وروحية. إذ لا نعدم أن نتلمس في قصائده روح الانتماء إلى الحب والعشق، بروح مفعمة بالابتكار، يتساوق فيها الاكتشاف والدهشة والجمال، يحيل فيها "الخيالي" و"المتخيل" إلى الواقع وما هو منه. وكأنه، في أعماله التي اتخذ منها هذا المنحى، يحقق ضرباً من دراما الحب، بفعل تواصله ذاتاً مع تكوينات القصيدة التي تنجز. يقول في قصيدة بعنوان:/ أغنية إلى عابرة: "تمشين... تختالين زهواً كالظبا/ ويصوغ وقع خطاك لحناً مضربا/ منك المساء له مواعيد الهوى/ وبك الطريق تفوح عطراً طيباً/ قسمات وجهك في خيالي أورقت، وعلى جفوني أوشكت أن تكتبا. (ص 30).

وإذا كانت الفنون بفروعها الكثيرة من الأدب والشعر إلى الرسم والنحت والموسيقى، أساسية في حياة كل إنسان، لكونها الطاقة التي تجري في جسم الإنسان وذهنه بطريقة لا ترى، وبحيث إنها تذهب إلى أبعد ما تحتاجه الحياة البشرية، فإنها في تجربة أنور سلمان وكأنها مغروسة في جبلته. إذ الإنسان بدونها، يعيش حالة مرضية، يخبط في المجتمع كالتائه، لا يعرف معنى الحياة الفعلي، ولا حتى معنى واقعه الذي يعيشه. يقول الشاعر: كنت الوجه الأجمل للرسم/ وما كنت امرأة للشعر/ أتذكر أني/ منذ عرفتك/ لم أكتب عنك/ ولو سطر/ لا يعطي الوردة إيثاراً/ إلاّ ما تحمله من عطر/ عذراً/ إن كنت مررت عليك/ ولم يأخذني هذا السحر/ فهناك امرأةٌ تكتب شعراً/ وامرأة/ يشربها الحبر (ص 70).

ولأن أنور سلمان، هو الشاعر الذي وضع شعره بمنـزلة التجربة، فإنه غالباً، ما كان يأتي فيه بما يمكن أن ننسبه إلى عالم الاكتشاف، سواء في ما حمل من رؤية للمرأة وللحب، أو فيما قدم فيه من رؤية للمرأة والحب. ذلك أنّه فنان تمتع بشمولية النظرة وخصوصية الأداء، وقدم مفهومات حاسمة، برزت مفرداته المباشرة وكأنها مغلفة للواقع، على الرغم مما في الشّعر من طبيعة إبداعية خاصة، استطاع الشاعر أن يتمثلها في نفسه، وأن يتمثلها في شعره. يقول الشاعر في قصيدته "ثورة شهرزاد": قبل عام.../ عرفت فيك حبيباً/ وانقضى العام،/ والهوى صار ذكرى/ كل عام/ وأنت قيس ليلى../ فإذا ما ملكتها كن لأخرى./ وتنقل ما بين صدر وثغر/ واحتضنهن بين يُمنى ويسرى/ وتألق... كسيد في بلاط/ والغواني له إماء وأسرى./ وتمثل بشهريار.. مجنوناً/ ولتكن كلها/ لياليك حمرا/ (ص 76).

وإذا اعتبرنا أن أنور سلمان في "مرايا لأحلام هاربة": (دار نلسن، 2016)، والذي صدر بعد رحيله، إنما يقدم لنا معطىً تخييلي، فإنه لا نراه يجافي في قصائده ونصوصه النثرية الكثيرة الواردة فيه، معطيات الواقع. بل على العكس من ذلك كان قد جعل من هذا المعطى التخييلي معطيات كثيرة ذات أبعاد دلالية أوسع من حدود الواقع، وأشمل رؤية من حدوده. فباتت نصوصه تعبر عن فكرة، وتتعين بحركة ذات فعل، تماماً كما هي ذات بعد واقعي وتاريخي، ما جعل من هذه النصوص النثرية والشعرية، غنية برمزيتها، عميقة الأبعاد والدلالات المتأصلة بحياة الإنسان وجوداً إنسانياً حميمياً. فإلى جانب ما يقوم به من اكتناز لروح الشاعرية الدافقة، فإنه ينهض بمعاني، بل بأبعاد التصور الآثر في الشّعر.

يقول في رسائل من زمن الشّعر: من زمان/ كتبت لي من مدينة سميتها في رسالتك يوم ذاك/ مدينة الشمس والحرية/ كتبت لي تقولين لو تعرف يا صديقي كم يتغير الإنسان بانتقاله من سكنى القرية الفقيرة البسيطة إلى سكنى المدن الغنية المتحررة المتحضرة/ وكم أود لو تشاركني قناعتي بأن وجودك هنا سيشكل خطوة هامة في سبيل تحقيق أمنياتك التي طالما حدثتني عنها. ويختم في القصيدة نفسها: من زمان غير بعيد، كان بيننا هذا الحوار – يا صديقي – يوم كانت لنا قرى تعشق قراءة الشّعر، ومدن تهوى كتابة الرسائل (ص 82).

يكاد أنور سلمان أن يضع نظرية في الشّعر العربي الحديث، أعرب فيها في قصائده ونصوصه، وفي ما دون من "يوميات"، تتمثل أكثر ما تتمثل في رسم مسار للأدب العربي الحديث، لا يخلو من أبعاد نظرية. إذ نراه يتحرك في اتجاهين متلازمين: الاتجاه نحو الواقع، وما يتعين فيه من رؤى وتمثيلات الحياة الإنسانية، والماضي في ما له من معطيات ثقافية، محققاً بذلك اجتماع قوتين في أدبه: قوة الأدب فيما هو تقنية وصنعة ورسم ومسار، وقوة الوجود، فيما هو "موضوعات" متمثلة برؤية متفوقة. فكان في هذا، أقرب ما يكون إلى الكشف عن حياة "كونية"، ذات وجود دلالي، يظهر فيها الإنسان بحضوره الأقوى الدال على طبيعة وجوده. وجوداً زماني البعد في المكان. ولا غرابة فالإنسان هو الغاية الكبرى لفن هذا الشاعر الراحل، ومركز الرؤية عنده، هو الوجود المتجدد في سرمديته.

يقول أنور سلمان: "عندما أجلس لأسود بكلماتي صفحة بيضاء، تحول يدي إلى حمامة تريد أن تطير، وقلمي إلى غصن زيتون أخضر، فأنا أبحث عن الكلمات التي تصاغ بأحرف من نجوم. لا عن تلك التي تكتب بقطرات من الدماء. فإذا كتبت عن الوطن/ فهو واحة سلام وحب".


* - أستاذ في الجامعة اللبنانية